
أحالت الحكومةُ الموريتانية للبرلمان اليومَ (22/07/2021)، مشروعَ قانون يتعلق بحماية الرموز الوطنية في مجال التنظيم ، وقد أثار هذا القانون جدلا واسعا في الفضاءات المعنية بالشأن العام ، وذهبت فيه الآراء النخبوية مذاهب شتى!.
إن هذا القانون - شأنه ، شأن كل القوانين الوضعية - كان لابد أن يحمل عيوبا وثغرات علمها من علمها ، وجهلها من جهلها ، بيدَ أن ذلك لا ينبغي أن يكون سببا لنسف ما يحمله في طياته من ميزات تتمثل أساسا في بناء السد منيعا أمام المساس بما يُعرف في القاموس الدستوري بالسيادة الداخلية للدولة.
إنّ هذه الحماية كرسها هذا القانون في جلّ مقتضياته وأجْـملَ تلك الأبعاد الحمائية في مادته الأولى التي نصت على أنه: (يهدف هذا القانون دون الإخلال بالأحكام المنصوص عليها في القوانين الأخرى إلى تجريم ومعاقبة الأفعال المرتكبة عن قصدٍ باستخدام تقنيات الإعلام والاتصال الرقمي ومنصات التواصل الاجتماعي، المرتبطة بالمساس بهيبة الدولة ورموزها وبالأمن الوطني والسلم الأهلي واللحمة الاجتماعية والحياة الشخصية وشرف المواطن).
والحقيقة أنّ هذا القانون لم يحمل جديدا كبيرا في منظور التجريم بالنظر إلى طبيعة الأفعال التي كرس تجريمها ، إذْ هي أفعال تم تجريم أغلبها سابقا في قوانين نافذة في الوقت الراهن ، كما هو الحال بالنسبة للمدونة الجنائية وقانون الفساد وقانون مكافحة الإرهاب.. الخ.
إنّ الجديد البارز الذي أضافه هذا القانون ، هو ضمانة هامة تتعلق بشرف مؤسسة رئيس الجمهورية إذ نص في المادة "2 " منه على أنًـه: ( يعد مساسا بهيبة الدولة ورموزها كل من يقوم عن قصد عبر استخدام تقنيات الإعلام والاتصال الرقمي ومنصات التواصل الاجتماعي بالمساس بثوابت ومقدسات الدين الإسلامي أو بالوحدة الوطنية والحوزة الترابية "أَوْ بِسَبِّ أَوْ إهَانَةِ شَخْصِ رَئِيسِ الجَمْهُورِيَّةِ" ). هذا بالإضافة إلى الاهتمام البالغ والتركيز على نوع الجريمة ، والتعامل معها بوصفها افتراضية بعد أنْ كان التركيز على تلك الجرائم واقعيا هو المعمول به.
إنّ هذا القانون لايمكن اعتباره تكميما للأفواه ، بقدر ما هو منظم لحرية التعبير ، فليس من الوارد التحامل على هذا القانون لمجرد أنه جعل سَـبَّ الرئيس محظورا ، إذ للرئيس -بغض النظر عن من يكون - الحق في حماية العرض والكرامة ، وهو الأولى -يقينا- بذلك من بين العموم ، لأنه لَـمَّا انتُخِب لتدبير مصالح الأمة أصبح محلّ ثقة مقدسة لايجوز النيلُ منها إلى حين انتهاء مأموريته لعظمة ضمير الجماعة الذي وهب الرئيس التقديم للقيادة ، وَلنَـفترض جدلا أنَّـنَا اصغينَا لتلك الأصوات المطربة ، المطالبة بإسقاط هذا القانون ، إنها لن تعدو ثلاثة أنماط من الإدعاء:
-الإدعاء الأول: يرى أنّ الرئيسَ شخص بسيط و عادي كعمر وزيد ، وهذا مردود عليه بأن فلسفة مكانة الرئيس تأبى هذا المنطق ، لأنه لو كان الرئيس كباقي الأفراد لنازعته في صلوحياته النبيلة ، وهو مايستحيل إطلاقا، الشيء الذي يؤكده سواد نظريات العقد الاجتماعي ، فالرئيس حسب "هوبز" مثلا ؛ هو المنقذ من حرب الكل ضد الكل وحياة المشاعية ، وواسطة عقد سلام الأمة ، ووجوده هو سر استقامة الحياة المدنية وضمان الحقوق والحريات إزاء الهمجية المطلقة . ومن هنا تعذر تساوي رئيس الجمهورية مع باقي أفراد المجتمع وكان قمينًا بحماية خاصة في ظل الشرعية.
-الإدعاء الثاني: يرى بأنّ الرئيس يصبو أن يجعل من هذا القانون جُـنةً يحتمي بها ، وسوطَ قهرٍ يُسلِّـطه على هواه ، وهذا مردود عليه كذلك لأنّ هذا القانون صريح فلم يجعل كل من يَنْبسُ ببنت شَفةٍ للرئيس حقيقا بالعقاب بل حصر الأمر في "السب" ، هذا علاوة على أنّ الرئيس لا يوقع العقاب بنفسه ، وإنما السلطة القضائية المستقلة هي صاحبة الاختصاص الحصري بإنزال الجزاء عند الاقتضاء.
-الإدعاء الثالث: يتحرج تحرجَ المتخوف من تنصيص الفقرة الثالثة من المادة "3" على عقلنة تصوير القوات العسكرية لدواع أمنية ، وذلك حين نصت على أنه:( يعتبر مساسا بالأمن الوطني تصوير ونشر وتوزيع صور أفراد أو تشكيلات القوات المسلحة وقوات الأمن أثناء أداء مهامها دون إذن صريح من القيادة المسؤولة، ويعاقب ارتكاب ذلك بالحبس من سنة (1) إلى سنتين...الخ.) ، إنّ هذه الفقرة لايمكن معارضتها بحجة التمهيد للقمع كما يَطيبُ للبعض ، لأنّ القمع دون الضوابط القانونية خارجٌ -البتة- عن مهام السلطات الأمنية ، وبالتالي جاز تصويره رغم أنف فاعِلِـيه ، ولو أرادوا سجن المصور لوجدوا رقابة القضاء لهم بالمرصاد.
وعلى العموم ، نحن لا نسعى إلى القول بأنّ هذا القانون كتاب نزلت به الملائكة كاملا من السماء ، ولكنه يبقى عملا قانونيا جيدا ، سار وفق الآلية القانونية التي تضفي الصبغة الشرعية للتطبيق على المستهدفين ، وقد حمل إضافات حية نرجو أن تسدَّ بعضَ الثغرات البادية في الترسانة القانونية الوطنية ، على أَمَلِ أنْ يتم التغلب على ماشابه نسبيا من نواقص ، ثمَّ يعزز لاحقا بقوانين أكثر حكامة ورشدا لضبط الحرية وفقا لمفاهيم العدالة وقواعد الانصاف.
-