
في المشهد السياسي الموريتاني، ظل التعامل مع النائب بيرام ولد الداه أعبيد ملفا حساسا داخل أروقة السلطة، حيث تباينت المواقف بين جناحين مؤثرين خلال فترة حكم الرئيس السابق محمد ولد عبد العزيز والمأمورية الأولى للرئيس الحالي محمد ولد الشيخ الغزواني.
الجناح الأول، الذي مثله الوزير الأول المختار ولد أجاي وصديقه سيد محمد ولد محم، كان يرى أن بيرام يجب أن يُمنح هامشاً من الحرية، وأن يُسمح له بالترشح في الانتخابات، بل والإشارة إلى بعض رجال الأعمال بدعمه. بالنسبة لهم، فإن بيرام ليس خطراً على الأمن، ولن يذهب بعيداً في الخطاب الشرائحي، وأي إشارة رسمية يمكن أن تعيده إلى موقع "المعارضة المأمونة".
غير أن هذا التوجه لم يكن سوى مجازفة، لأنه يمنح خطاباً شرائحياً منفلتا فرصة الحياة، ويحول موارد الدولة ورجال الأعمال إلى أدوات لتغذية زعامة لا تلتزم بالثوابت الوطنية، فضلاً عن أنه يربط الاستقرار السياسي برضا شخص واحد، ويعرض الدولة لابتزاز مستمر.
أما الجناح الثاني، بقيادة وزير الداخلية محمد أحمد ولد محمد الأمين ، فكان أكثر عقلانية. فقد اعتبر أن التعامل مع بيرام يجب أن يكون حصراً في إطار القانون، مع منع حزبه من العمل حتى يخضع للمسطرة القانونية، وتجفيف مصادر تمويله، سواء من رجال الأعمال أو من المساعدات الرسمية وغير الرسمية.
هذا الفريق كان مقتنعا بأن الضغوط الخارجية، خصوصا من أوروبا، لن تضر بصورة موريتانيا كثيراً، نظراً لصلابة المصالح المشتركة التي تجمع الطرفين.
وقد أثبتت التجربة أن هذا الموقف هو الأجدى للدولة والمجتمع معاً، لأنه يوفر حصانة ضد الانزلاق في صراعات شرائحية تهدد السلم الأهلي، كما يقطع الطريق على توظيف خطاب التطرف لتحقيق مكاسب شخصية.
ومنذ نحو ثمانية أشهر، وفي إطار تقويض ظاهرة صراع الأجنحة التي كانت تقسم الحكومة وتعرقل الأداء، انتصر رأي الجناح العقلاني. وهكذا جفت موارد بيرام المالية، ووجد نفسه في ضيق غير مسبوق. ولم تكن تصريحاته الأخيرة في بروكسل سوى محاولة للتعبير بلغة المعارضة الأوروبية، فيما جاءت تحالفاته مع تيارات متطرفة كرد فعل على واقعه الجديد.
إن انتصار هذا الموقف مثل خطوة حاسمة في إخماد صراع الأجنحة داخل النظام، ووجّه رسالة واضحة بأن الدولة لا تخضع للابتزاز، وأنها ماضية في إرساء هيبة القانون باعتباره الضامن الوحيد لوحدة المجتمع وتماسكه. وهو ما يشكل حصانة حقيقية للدولة من الانجرار في الصراعات الشرائحية، ويعزز قدرتها على محاربة التطرف، وصون الاستقرار السياسي والأمني للبلاد.
يمثل هذا التحول في إدارة ملف بيرام درسا مهما لمستقبل السياسة الموريتانية، إذ يوضح أن العقلانية والقانونية في التعامل مع المعارضة تفضي إلى بيئة سياسية أكثر استقراراً، وتحد من فرص توظيف الانقسامات الشرائحية لمصالح شخصية. كما أنه يرسخ قاعدة مفادها أن الدولة ليست رهينة أفراد أو جماعات، وأن حماية مؤسساتها وسلطاتها من أي استغلال شخصي هو الضامن الحقيقي لاستمرار الوحدة الوطنية وتعزيز مصداقيتها داخلياً وخارجياً.
عند قدومه إلى المطار أمس، أصيب النائب بيرام ولد الداه أعبيد بخيبة أمل من قلة المستقبلين ، فقرر السير على الأقدام نحو منزله لمسافة 40 كيلومتراً كوسيلة لامتصاص الصدمة وخلق أثر إعلامي. فقد كان تصوره أن يتم حمله على الأعناق وأن قدومه سيكون حدثاً عظيماً.
واصلت السلطات الأمنية مرافقته و مجموعة، ولم تحدث أية احتكاكات كبيرة، حتى وصل إلى منزله مرهقا وبهدوء، دون أية مضايقات.